hossamhasan

شارك على مواقع التواصل

(1)
كان تاندي وسيجورد شاهرين حرابهم، وبوهاردي وموريس يمسك كلًا منهما بتلابيب الآخر، وأوساي استيقظ لتوّه لكنه بدا كالثمل بين ذراعَي مافي، وعمار يجلس يسند رأسه، وسامبار حالته يرثى لها.
رأى أوين كل ذلك وقال:
- من هذا؟
وأشار إلى دكرور الذي لم يفِق من دهشته بعد، فردّ دييجو الذي لم يفِق من دهشته هو الآخر:
- إنه دكرور.. وافدًا جديدًا
جذب أوين يد دكرور وصافحه بقوة قائلًا:
- أوه! كيف حالك؟.. مرحبًا بك معنا...
ومن دون أن يسمح لدكرور بردّ التحية التفت عنه إلى الرجال وقال:
- والآن يجب أن نجهز جميعنا لأن البحارة من السفينة التي جئتُ على متنها مؤكد أنهم رأوا أطلس وهو يبتلعني ومؤكد أنهم يبحثون عنه
قال كل ذلك بسرعة وبتوتر، والرجال يحدقون فيه مذهولين، فسأله بوهاردي بعد أن ترك موريس:
- هل جئتَ على متن سفينة تحويت؟
- نعم!
- ولم تجِد سفينة أخرى؟
- لا!...
ثم سأله رالف:
- أين شعرك؟
- لا أعلم، والآن...
قاطعه موريس:
- أين ويليام؟
- لقد مات
شهق بعض الرجال من الصدمة، وهوى بعضهم يجلس في مكانه، وقال رالف بتأثر شديد:
- كيف؟
- كان مريضًا ولم نكن قادرين...
قطع أوين كلامه ورفع صوته بعصبية وأردف:
- يا رفاق! أعلم أن الأمر مؤلم، لكن يجب أن نجهز ونصعد إلى تلك السفينة الآن قبل أن تجِد أطلس، أو أسوأ.. قبل أن تهرب، بعد ذلك سأخبركم بكل شيء.. مفهوم!!!
كان أوين يرفع صوته أكثر فأكثر مع كل كلمة، حتى صرخ بآخر كلمة فرنّت في المكان، ثم ردّ عليه أطلس بصافراته الثلاث المميزة، وظل الرجال في صمتهم حتى قال بوهاردي بصوت خفيض مُتعَب:
- حسنًا، اجهزوا!
فبدأ الرجال يتحركون بتلكؤ وهم صامتين، كلٌ بنفسه لا يساعد أحد الآخر، فاستغرق الأمر وقتًا أطول، وبدا أوساي غير قادر على الوقوف بعد أن أفاق، وعمار يترنح كالسكران، وباقي الرجال واجمين لا يتكلمون.
جهز دكرور وربط حربته على ظهره ووضع مسدسه في ردائه، وبعد أن انتهى تمامًا صفعه عقله بخاطر لم يكن يلاحظه قَبلًا "هل ستقوم بقتل أحدًا اليوم؟!!"، لم يسأل نفسه ذلك السؤال من قبل، جعله الخاطر يتوقف عمّا يفعل وتسارعت ضربات قلبه فجأة، فبحث عن عمار علَّه يساعده في محنته تلك، لكنه وجده هو من يريد المساعدة، فذهب إليه وسأله:
- هل أنت بخير؟
فأجابه عمار بوَهَن:
- لا، وأنت؟
- لا، ولا يبدو أحدًا هنا بخير
قال أوين والرجال ما زالوا يجهزون:
- الوقت صُبحًا يا رجال.. يجب أن تعلموا أن هؤلاء البحارة مسلحون وخَطِرون، والأسوأ أنهم مستعدون
سأله دكرور محاولًا إخفاء توتره:
- مستعدون لِمَ؟
أجابه أوين باقتضاب:
- لاصطياد حوت!
خرج بوهاردي أولًا من الشق المفتوح والذي لم يُفتح منذ مدة، وتبعه البقية الواحد تلو الآخر، ومعهم دكرور، تاركين سامبار وحده، وجد دكرور نفسه بعيدًا عن السفينة بعض الشيء، فسبح نحوها بهدوء محاولًا إخفاء صوت ضرباته الخرقاء في الماء، وتعلق بالسفينة مع بوهاردي ورالف وأوين وأوساي ودييجو، وبقية الرجال كانوا على جانب السفينة الآخر، وافتقد عمار بجانبه لأول مرة منذ مدة طويلة.
انتظر بوهاردي قليلًا حتى ظنّ أن كل الرجال صاروا على السطح، بعدها بدأ يتسلق جانب السفينة وحده إلى متنها، فاستوقفه أوساي حين رأى قاربًا بعيدًا، وآخر أبعد لكن من جهة أخرى من السفينة، فوضع بوهاردي سبابته على فمه محذرًا من إصدار أي صوت.
وأكمل صعوده حتى وصل إلى حافة السفينة، فتشبث بها وألقى نظرة إلى متنها، ثم أخرج من جيبه حجرًا وألقاه من فوق السفينة إلى الجهة الأخرى منها، بعدها أشار بيده للرجال أن يتبعوه.
وما أن وصل دكرور إلى المتن وجد بوهاردي ممسكًا برجل تستقر حربة في ظهره، ويضعه على الأرض برفق وحنان كأنه يضع رضيعًا في مهده، ثم سحب حربته من جثة الرجل وأشار للرجال أن ينخفضوا حتى لا تراهم القوارب، وأشار إلى أوساي أن يصعد أعلى الصاري، لكن أوساي أبى وجلس في مكانه، ورفع صوته قائلًا:
- لا.. ليس هذه المرة!
وضع دكرور يده على كتف بوهاردي وقال:
- سأصعد أنا!
فنظر إليه كل من سمعه بدهشة وقد تعجب هو نفسه من قراره هذا، فهو لم يكن مبادرًا في حياته هكذا خاصةً إن كان الأمر يتعلق بقتل أحدهم، ثم رأى مافي يصرع رجلًا آخر ففكر "أترى كم أن الأمر سهلًا!"، وأول ما بدأ يتسلق الحبال استوقفه موريس قائلًا:
- ستقابل رجلًا شجاعًا بالأعلى يا دكرور، أقضِ عليه قبل أن يتذكر ذلك
ظل دكرور معلقًا بالحبال يستوعب كلام موريس الغريب، قبل أن يواصل التسلق بثبات وثقة، وهو يحاول أن يتوارى عن القاربين، لكنه لم يعبأ كثيرًا بعد أن وجد قارب آخر وراءه، وفكر أنهم سيحسبوه أحد البحارة إذ لا سبيل لتمييز الوجوه من هذه المسافة على كل حال.
وعلى بعد خطوتين من وصوله قمة الصاري سحب دكرور حربته من وراء ظهره واختلس نظرة إلى أعلى، فرأى رجلًا متكئًا يسند رأسه بيده ولا يتحرك، ويعطيه ظهره.
حينها تردد وتَلِه واستبد به الخوف بسرعة، مما جعله عاجزًا عن الحركة، ثم تمالك نفسه وصعد ما تبقى من مسافة بسرعة، دون أن يصدر أي صوت كما تعود طوال حياته، ووقف خلف الرجل وأمسك حربته بكلتي يديه موجهًا رأسها إلى ظهره، ولا يزال الرجل لا يحرك ساكنًا، فتعجب من سكونه واقترب منه أكثر ليجده يغُط في نومه.
جعله ذلك يتردّد أكثر، وظل دكرور يقف بجانبه يتأمله حتى سمع صوت جلبة آتية من أسفل، فالتفت عن الرجل إلى متن السفينة ووجد رجلين يتقاتلان لم يتبينهم، لكن أحدهم كان يصيح ويلوّح بسكينه بعشوائية، ففكر دكرور "يبدو أن أحدهم تذكر أنه شجاعًا!"
ثم صُرِفَ عن القتال الجاري بالأسفل، وانشغل بمتابعة ظله الذي بدأ يتحرك من غير أن يتحرك هو، وأدرك بعد برهة أن ذلك لم يكن ظله هو، بل كان الرجل النائم وقد استيقظ.
★★★

التفت دكرور بسرعة ليجد الرجل يرفع مُدْيَته، لكنه تحرك بسرعة قبل أن يهوي بها عليه، فوقف الاثنان يرمقان بعضهما، تأهب الرجل بمُدْيَته، ودكرور بحربته وصوّبها بتوتر نحو الرجل، وقال:
- ألقِها من يدك ولن تتأذى
قالها دكرور وهو يعلم جيدًا أنه يكذب، إذ أصبح الأمر الآن إما قاتلًا أو مقتولًا، فضحك الرجل ضحكة تنم عن أسنانه الصفراء وقال:
- ماذا؟.. هل ستقتلني بحربون الحيتان هذا؟
قالها بإنجليزية بالكاد فهمها دكرور، ثم عقد حاجبيه وأحكم قبضته على مُدْيَته، وأشار بها نحو دكرور وأردف:
- حسنًا ربما هناك بشر يعيشون في المحيط الأطلسي بالفعل، وربما أنا ميت على كل حال، لكن سأحرص على أن تأتي معي...
اندفع الرجل بقوة نحو دكرور رافعًا مُدْيَته وهوى بها عليه، فدفعها دكرور بحربته وكرر الرجل المحاولة عدة مرات وبقوة أكبر، ودكرور يتفادى ضرباته بصعوبة في كل مرة لكن لا يهاجم؛، ثم وضع مديته بين أسنانه وأمسك حربة دكرور وأخذ الاثنان يتصارعان عليها ويدفع كلًا منهما الآخر بكل قوته، إلى أن ضرب الرجل دكرور في ساقه فاختلّ اتزانه، ودفعه حتى تدلى نصفه من السور الصغير للصاري، وأصبحت الحربة على رقبة دكرور يدفعها الرجل بثقله وكل قوته.
كل ما فكر فيه دكرور وهو على ذلك الحال "كان يجب أن أقتل هذا الوغد قبل أن يتذكر أنه شجاعًا"، ثم أخذت قوته تخور ببطء، وارتخت قبضته على الحربة، وحين بدأ يغيب عن الوعي سمع صوتًا بعيدًا يألفه، لكن بدا أن ذلك الرجل يعرفه جيدًا جدًا، إذ إنه كان صوت نفث حوت.
وقف الرجل مفزوعًا وترك دكرور الذي أخذ يسعل بصعوبة، ودار حول نفسه بعصبية باحثًا عن مصدر الصوت، وما أن أعطى لدكرور ظهره دفعه بكلتي قدميه من أعلى الصاري، فسقط الرجل وهو يطلق صرخة عالية طويلة، سكتت فجأة حين ارتطم بسطح السفينة، ثم نظر دكرور إليه من أعلى فوجده قد انغرس جسمه في خشب متن السفينة الذي انكسر من إثر السقطة، والرجال ملتفين حوله فنظر أحدهم إلى أعلى وصفَّق بيديه تحيةً.
وجلس دكرور في مكانه مكفهرًا، يمسك برقبته ويحكها ويفكر وهو يسعل "لقد استحق هذا.. نعم، لقد استحق هذا"، وقام حين سمع صوت النفث ثانيًا، ليجده أطلس يسبح بجانب السفينة، وتعجب حين رآه من مكانٍ عالٍ يناهز السفينة طولًا بل أطول، فقد بدا كجزيرة ترسو إليها السفينة، ورأى أيضًا القوارب تقترب، ثم سمع صوتًا من أسفل يقول:
- انزل يا دكرور! نحتاجك هنا
ولما نزل قال له أوساي وهو يصفّق:
- عمل رائع يا صديقي! لكننا نتخلص من الموتى بعد أن يموتوا وليس قبلها
فضحك من سمعه، وردّ دكرور:
- ولِمَ لَمْ تصعد أنت أيها الشجاع؟ هذا الوغد كان ليفتك بك على أي حال
- لا حسبك! أنت لم ترَني أقاتل من قبل.. هل تريد أن ترَ الآن.. هه؟
كوّر أوساي قبضته فيما بدا كتهديد لكن دكرور لم يعبأ به، وحذر الرجال من القوارب القريبة فقال أوين:
- لندعهم يصعدون ومن ثمّ نباغتهم
ورَدّ موريس:
- لا، لا يجب أن يصلوا إلى هذه السفينة ما دمنا عليها.. سنصطادهم في قواربهم
ثم سمع دكرور عمار يناديه، فذهب إليه فوجده يشير إلى جثة الرجل الذي ألقاه، وصُعِق دكرور حين وجده لم يصبح جثة بعد، إذ إنه ما زال يتنفس ويصدر أنينًا خافتًا وعينه شاردة في السماء، فقال عمار:
- يجب أن تنهي ما بدأته!
وأعطى دكرور حربته، فوضع رأسها على صدر الرجل ونظر في عينيه طويلًا، ثم غرسها ببطء، حتى سعل الرجل دمًا وزفره من أنفه ثم مالت رأسه قليلًا وسكت أنينه، فأشاح سيجورد عنهم وعلّق على هذا المشهد:
- اللعنة! هذا بالضبط ما يحدث للحيتان
وشعر دكرور بالكآبة والضيق، ليس لأنه قتل رجلًا، بل لأنه لم يشعر بالاستياء حين فعل، فهو لم يشمئز من نفسه أو يكرهها، لكنه شعر بنشوة أعقبها شعورًا بالإحراج والخجل، وهذا أيضًا ليس لأنه قتل رجلًا، بل لأنه ولوهلة؛ أراد أن يفعلها ثانيًا.
ثم قال موريس لدييجو ورالف:
- سنبدأ نحن.. والبقية سيتبعوننا عندما تنفد ذخيرتنا
إذ إنهم الوحيدون الذين لديهم خبرة في هذه الأشياء، فموريس كان جنديًا في الأسطول الفرنسي، ورالف كان جنديًا في الأسطول الإنجليزي، ودييجو كان قرصانًا متمرسًا.
واصطف الرجال وراء سور السفينة، من الناحية التي يتجه منها القوارب وأمامهم الحراب التي جمعوها، كان أولهم رالف وآخرهم دييجو وفي المنتصف كان موريس، وبقوا متأهبين حتى تقترب القوارب أكثر.
ودكرور يجلس بجانب عمار وأوين، فسأله أوين:
- منذ متى وأنت هنا يا دكرور؟
أجاب دكرور بصوت مبحوح ومتحشرج:
- لا أدري.. ربما...
قاطعه عمار وقال لأوين:
- إنها المرة الثانية التي يصعد فيها معنا
رَد أوين:
- أوه! أنت تبلي حسنًا.. أتذكر جيدًا أول مرة، كنت...
سكت أوين فجأة كأنه تذكر شيئًا، ونظر إلى دكرور وعمار باستغراب، وأخذ ينظر إلى الرجال بعصبية كأنه قد أضاع شيئًا ويبحث عنه بينهم، ونهض بعصبية ووقف أمام الرجال ينظر إليهم أكثر، فعنفه موريس:
- ماذا تفعل؟ ارجع مكانك قبل أن يراك أحد..
لكن أوين رفع صوته قائلًا:
- يا رفاق.. أين هنري؟!!
ولم يتلقّ أي إجابة، إلا صوتًا آتيًا من الماء يقول:
- سيد إلوود؟!!
رفع أوين كلتي يديه، عندما وجد أحد البحارة يصوب بندقية نحوه، ثم انخفض بسرعة شديدة، متفاديًا الرصاصة، فقام موريس ورالف ودييجو وأمطروا القاربين بالنيران، وبعد بضع ثواني صاح بوهاردي بالإشارة فقام وتبعه البقية يطلقون الحراب، فأصاب بعضها وأخطأ منها الكثير، إذ كان معظم البحارة يقفزون من القوارب ويسبحون مبتعدين.
وما أن كادوا ينتهون من كل الرجال في الماء؛ توقف دكرور قبل أن يرمي بحربة في يده، ولاحظ أنهم قاربين فقط، وفكر في نفسه: "كان هناك ثلاثة.. أين الثالث؟"، لكن كل ما فعله هو التفكير في نفسه، إذ كان صوته قد ذهب مجددًا.
فبحث بعينه في الماء عن القارب الثالث ولم يجده، ولما التفت وجد رجلًا لا يعرفه يصوب مسدسًا نحوهم، ومن وراءه آخرون يتسلقون سور السفينة، فأطلق الرجل طلقة أصابت رالف في ساقه أجلسته في مكانه، فرماه عمار بحربة صرعته في توّها، والتفت باقي الرجال وصوبوا حرابهم نحو الجهة الأخرى، وطُعِن كل من حاول التسلق، وأُمطِر القارب الثالث بالنيران حتى لم يبقَ عليه حي.
ثم قال بوهاردي بعد أن هدأت الأمور:
- هل يرى أحدكم أي شيء يتحرك في الماء؟.. ولا حتى أطلس؟
فصاح مافي من مقدمة السفينة:
- إنه هنا!
فحمل رالف كلًا من دكرور وموريس وأسرعوا به إلى الماء، فقفزوا وغاص ثلاثتهم داخل جوف أطلس، وتبعهم الجميع دون أن يلتقطوا أنفاسهم.
★★★

(2)
كان صراخ رالف يعلو في الجوف وموريس يحاول إخراج الرصاصة من ساقه، ثم انتهى سريعًا فسكت رالف وربما نام في مكانه، فذهب كل رجل في طرف دون كلام ودون أن يتعرض أحدًا للآخر، كأنهم يهربون من بعضهم، فقط كانوا يحيّون أوين باقتضاب، ثم ذهب بعضهم لينام مثل عمار بالطبع، ومنهم من يستلقي أو يجلس في مكان نومه، وأحدهم كان جالسًا وحده لا يفعل شيئًا.
كان دكرور يجلس مسندًا ظهره إلى الحائط الذي فيه الشق، ينظر إلى يده التي لا تزال ترتجف منذ أن عاد إلى الجوف أو ربما قبل ذلك، لكنه لم يلحظها إلا حينها، حاول أن ينام في مكانه هربًا من يديه الراجفة ومن الرجل النحيل الذي قتله، فتذكره وفكر "يا له من رجل شجاع!"، لكنه سرعان ما تخلى عن فكرة النوم حين أدرك أن لابد له من أن يحلم بذاك الرجل وحينها لن تكون مجرد ذكرى، إذ إن الأحلام لم تعد تتورع عن سرقة الذكريات خاصةً تلك التي يودّ بشدة أن ينساها؛ وتشكّلها كيفما تشاء إلى أقبح وأقسى صورة لها.
فقرر دكرور أن يذهب للرجل الجالس وحده، لعل عينه تنسى حاجته الشديدة للنوم، فوجده أوين وأومأ الاثنان تحيةً، ثم سأل أوين مازحًا:
- كيف كان يومك؟
ضحك دكرور رغمًا عنه ورَد:
- كان أفضل من رالف بالتأكيد
- أه! مسكين رالف.. أعتقد أنه لا يمانع إضافة رصاصة أخرى إلى جسده، فهو كما تعلم تلقى رصاصتين من قبل، لحسن حظه لم تكن أي منها قاتلة
- إذًا كيف كانت رحلتك إلى اليابسة؟ كانوا يعتقدون أنك قد هربت... أنت وويليام
- لا، لم أهرب كما ترى، بالطبع فكرتُ في الهرب مرة أو مرتين، لكن إلى أين؟.. صار البشر أبشع مما كانوا منذ ستين عامًا، كنت أكرههم حينها والآن لم أعد أعرف كيف أعيش معهم، ربما أطلس أكثر إنسانية من معظم البشر
حاول دكرور أن يتذكر ممّن سمع تلك العبارة بالأمس، لكن الأمس بدا وكأنه قد مر عليه دهرًا، ثم قال:
- كيف علم البحارة بأمر أطلس؟
زفر أوين ضحكة متعبة ثم أجاب:
- أطلس أكثر ذكاءً من معظم البشر أيضًا، كان يعلم أني في البحر ما أن ركبت السفينة، لكنه وجدني بعد يومين، فجاء بجانب السفينة وأطلق نفثةً عالية ربما وصلت لأعلى من الصاري، فعرفته على الفور، ووسط ذعر البحارة من حجمه وشكله الغريب، كان قلبي يتقافز من الفرحة حين رأيته، ثم أطلق نفثة أخرى وغاص بعدها، فتركت البحارة لدهشتهم وانسللت من بينهم إلى سور السفينة المقابل فوجدته ينتظرني في الماء، ولم أضيع وقت أكثر، هممت إلى سور السفينة لكي أقفز، وقبل أن أفعل استوقفني أحد البحارة.. لن أنسى النظرة على وجهه وهو يقول: "سيد إلوود! ماذا تفعل أيها المجنون"...
ضحك أوين أكثر ثم أردف:
- نظرت في عينيه مباشرةً ثم قلت له: "لا تقلق! سأراك لاحقًا" ورفعت قبعتي تحيةً ولوَّحت له بيدي مودعًا وقفزت
ضحك دكرور مع أوين وقد أعجب بحكايته، واستراح لأوين نفسه ولم يشمئز من صلعه الكامل الذي يجعله يشبه صغير فأر ولِدَ للتو، وتوقع أنه قريبًا منه في السن، لكن أحجم دكرور عن سؤاله عن شعره أو سنه.
ثم انضم إليهم بوهاردي وربّت على كتف دكرور وهو يقول:
- لقد أبليتَ حسنًا يا دكرور
ولم يرُدّ عليه دكرور سوى بإماءة بسيطة، ربما لأنهما كانا على وشك المشاحنة قبل أن يخرجوا، ثم قال بوهاردي:
- وأنتَ ماذا حدث لشعرك؟
وضع أوين كلتي يديه على صلعته يدلكها وهو يقول:
- لا أعلم.. لقد بدأ يتساقط بعد شهر تقريبًا
- هل حدث نفس الشيء لويليام؟.. أين هو يا أوين؟
- لقد مات ويليام قبلها، لا أعلم.. ربما كان مريضًا وهو بداخل الجوف، أو مَرِضَ بعد أن خرجنا لكنه مات متأثرًا بمرضه
- ولِمَ لَمْ تعودا على الفور؟
هز أوين رأسه في أسف وغضب وأجاب:
- لم نقدر.. فقد كنا في السجن على كل حال
رأى الدهشة والتعجب على وجه بوهاردي ودكرور، فقال:
- لماذا بظنك استغرقت شهرين حتى أعود؟
سأله بوهاردي:
- فيمَ دخلت السجن؟
- لا مهلًا! أريد أن أعرف الآن أين هنري؟
- لقد مات...
قالها بوهاردي دون تردد وبلا مبالاة، كأنه كان مستعدًا لها، فأغلق أوين عينيه وهز رأسه في تأثر، وبوهاردي يقول:
- ...حاول الهرب على متن قارب فقتله أطلس
- ماذا؟!! لا، لا أصدق هذا!!.. لقد كان... كيف يقتله؟!
- لقد صُدِمنا مثلك تمامًا
بدا على أوين الحيرة والدهشة وربما أراد أن يبكي، فسأل دكرور:
- أتَعْجَب من أنه قتله ولا تَعْجَب كيف أو لماذا قد هرب أصلًا؟
ردّ أوين والدهشة لا تزال على وجهه:
- يمكنني أن أتفهم لماذا يهرب أي أحد.. خاصةً هنري بعد ما حدث، لكن أطلس... إنه لا يرتكب القتل أبدًا، ربما أغرق قاربًا أو إثنين بذيله، لكن لم تصل الأمور إلى القتل قطّ، ويقتل من؟ أحد...
- لكن أليس هذا ما يحدث عقابًا لمن يهرب؟
ردّ بوهاردي:
- إلا أنه لم يحاول أحدًا الهرب من قبل، أتعلم يا دكرور.. أيًّا كان ما فعلنا؛ فإن وجودنا هنا أساسًا يعد عقابًا على ما فعلنا، فذلك الجوف هو السجن وأطلس هو السجّان، إلا أنه سجّان طيّب، كان يزورنا في أحلامنا، يتسامر معنا، ويرينا العجائب والأهوال التي رآها، ثم بعدها أصبح يأخذنا في جولات على ظهره إلى أغرب الأماكن في العالم، بعدها تطور الأمر إلى أننا كنا نساعده في إنقاذ الحيتان الشاردة على الشواطئ، ثم صار يسمح لنا بالصعود إلى متن السفن لسرقتها، وسمح لنا بالذهاب إلى اليابسة للبحث عن علاج لسامبار، وفي مرة منذ زمن طويل رأيناه في المنام وقد اقتربت سفينة كثيرًا من قتله دون أن يدافع عن نفسه، وعلمنا بعدها أنه لا يقتل البشر، وهكذا إذًا أخذنا على عاتقنا أمر سفن الحيتان، فكنا نخرقها لكي تغرق لكن هذ لم يكن مجديًا وبحارتها لا يزالون عليها، حتى جاء يوم وصعدنا لنجد قاربًا يطارد حوتًا، ربما أرادنا أطلس أن نشاهد فحسب، لكن تطور الأمر إلى أن أغرقنا القارب وقضينا على كل من عليه، ثم عدنا إلى السفينة وفعلنا المثل مع باقي الطاقم، ثم أغرقناها وهذه المرة غرقت بالفعل، لم نشعر بمدى بشاعة ما فعلنا بقدر ما شعرنا أننا أخيرًا قد صنعنا فارقًا، حتى ولو بسيطًا
- إذًا نحن نحميه، أم نحمي الحيتان أم ماذا؟
- إنه لا يحتاج للحماية.. إنه قادر تمامًا على قلب سفينة بطرف ذيله، كما أنه بإمكانه ببساطة أن يتجنب سفن التحويت على عكس الحيتان العادية الغبية، ما نفعله أقرب إلى الانتقام.. للحيتان أولًا ولنا ثانيًا، جميعنا هنا نمقت البشر لسبب أو لآخر، صحيح؟
نظر دكرور إلى أوين الجالس أمامه ولا يتكلم فقط يومئ من حين لآخر، ثم تذكر حياته كلها ورَد:
- لن أعارضك في هذا.. لكن ما الفارق الذي يحدثه ذلك؟ أعني الانتقام
أراد بوهاردي أن يجيب، لكن أوين هو من فعل:
- لقد بدأ الناس يلاحظون اختفاء سفن التحويت في المحيط الأطلسي والهادي، وهناك إشاعات يتداولها البحارة فيما بينهم حول تلك الاختفاءات، ولن تصدقوا ماذا يقولون.. بعضهم يلقي اللوم على القراصنة، وبعضهم يدّعي أن حيتانًا ضخمة هي من تحطم السفن، وآخرون يعتقدون أن بشرًا يسكنون المحيط هم من يغرقون السفن، فبدأ البحارة يخافون وهناك منهم من اعتزل مهنة التحويت برُمَّتِها، صدقني يا هاردي يصبحون أخطر مع مرور كل يوم، ما رأيناه اليوم كان عينة بسيطة
- أترى يا دكرور! ربما هذا هو الفارق الذي صنعنا، ماذا أيضًا؟
- أه! لقد ذهبنا إلى المكان الخطأ.. لم تعد صناعة التحويت مزدهرة في إنجلترا أو حتى في العالم؛ بقدر ما أصبحت في أمريكا، لقد أصبحت أمريكا رائدة تلك الصناعة، يقولون أن موانئ مثل نانتوكيت ونيوبدفورد هما عواصم التحويت في العالم الآن
- عواصم التحويت!.. أتعلم أين نحن الآن؟.. انتظر
قام بوهاردي وذهب إلى حيث يجلس وينام عادةً، ثم عاد وقد أحضر أوراقًا بالية منكمشة، كأنها ابتلت ثم تركت لتجف، فبسطها أمامه واتضح أنها خريطة، فسأل بوهاردي:
- وأين عاصمة التحويت تلك؟
أشار أوين بإصبعه في الخريطة وقال:
- نيوبدفورد ونانتوكيت.. في مكانٍ ما هنا تقريبًا
- حسنًا إن ذلك...
سكت بوهاردي حين وجد أن المكان قد أظلم كثيرًا، وضرب النعاس دكرور على الفور، وأردف بوهاردي وهو يتثاءب:
- موريس أدرى بتلك الأشياء مني.. سنتحدث إليه غدًا، أو ربما... أه لا يهم، نحن حقًا سعداء بعودتك يا أوين.. تصبح على خير يا دكرور
نهض دكرور هو الآخر وهو يترنح من شدة النوم والتعب، وقال لأوين:
- ستحكي لي غدًا لماذا دخلت السجن.. لا تنسَ!
- آه لا تشغل بالك!، اتهمونا بسرقة ما معنا من مال.. والذي كان أكثر من اللازم بشكل يثير الاستغراب، وأنفقناه ببذخ وبغباء
قال أوين ذلك بابتسامة آسية ساخرة، فابتسم له دكرور وتركه وذهب يبحث عن مكان ينام فيه بحيث لا يوجد أحد ينام مقابله على السقف، فهو لا يستريح أبدًا وهو يشعر أن أحدًا سوف يسقط عليه.
وبمجرد أن استلقى ووضع رأسه على كفه وأسبل جفونه؛ حتى نام، وكان آخر ما فكر فيه "ربما أنا هنا لأعاقَب، لكن هل لي من توبة؟".
★★★

(3)
كان يقف أعلى الصاري كأنه يطير، وكان متن السفينة أسفله بعيدة كأنه يقف على عشرة صواري فوق بعضهم، كان يترقب وينصت، وينتظر سماع شيء لكن لم يكن يتذكر ما هو حتى سمعه، فكان صوت نفث حوت، تزامنًا مع صوت الأغنية التي سمعها تقول:
- سمعت أنك تريد أن تتوب
قام بسرعة يشخص ببصره إلى الأفق، يتلفت بحثًا عن مصدر الصوت، وما أن فعل حتى دفعه شيء من وراءه ليسقط من أعلى الصاري.
وصل إلى متن السفينة في لمح البصر، توقع أن تتهشم عظامه إلى مائة قطعة، لكنه هبط كأنه ينزل من على فراشه، وعلى الرغم من ذلك فقد تسبب في كسر خشب السفينة من تحته، فابتعد قبل أن يسقط إلى أسفل، وكأن شيئًا لم يكن، وقال متسائلًا:
- وحتى إن كنتُ أريد ذلك.. هل تعرف كيف؟
- وحتى إن كنت أعرف كيف.. فلن يجدي شيئًا إن أخبرتك، لكني أعرف أول خطوة للتوبة، إنك إن أردت أن تتوب فعليك أن تندم أولًا، لكن هذا أيضًا لن يجدي إن لم تكن أنت نادمًا أصلًا
- أنا بالفعل لستُ نادمًا، ولا أذكر أني كنت كذلك، ولا أظن أني أريد هذا
- إذًا مرحبًا بكَ معنا إلى الأبد يا عزيزي دكرور
- لا أمانع ذلك يا أطلس
قالها دكرور وهو يبتسم ابتسامة راضية ويشعر بالسعادة والاطمئنان وأن الأمور ستكون على ما يرام إلى الأبد، ثم عاد يقول:
- ولكن إن ندمتُ وتبتُ وكل ذلك.. فهل ستدعني أخرج من جوفك؟
- ‏يؤسفني فراقكَ يا دكرور فأنت أحد رجالي الآن، لكن نعم
- لكن هل حقًا أني قد أخطأت لدرجة أن أعاقب مثل ذلك العقاب؟
- بحقكَ يا دكرور! فلنتفق على ألا نسأل أسئلة نعلم إجابتها مسبقًا...
ضحك دكرور وشعر بقليل من الخجل من سؤاله، ثم أردف أطلس:
- بغض النظر عن أن ما فعلتَ يستحق أكثر من ذلك؛ إلا أنه ليس السبب في أنك تعاقب أصلًا، فلا يهم حقًا ما قد أجرمته، هناك من يعاقَبون نفس العقاب لأسباب أقل بكثير، لكنه الحمق الذي يجعلك تظن أنك ستهرب من العقاب إلى البحر، وأن السفينة ستأخذكَ بعيدًا عما فعلت، إنها غفلتك عن أنك ستلقى تبعات أفعالك أينما ذهبتَ
- ماذا عن الآخرين؟.. هل فعلوا ما يستحق هذا العقاب؟ أم أكثر أم أقل؟
- ‏ربما أنا لم يدخل جوفي أحد قد فعل شيئًا هينًا من قبل، جميعكم فعلتم ما لن يكفّر عنه ألف عام في جوف حوت، كأني دائمًا ما أجد أشد البشر إجرامًا وأشنعهم إثمًا
- وكيف تعرفنا إذًا؟ كيف تجدنا من الأساس؟
- ليسوا كثيرين من يلجؤون إلى البحر، أو حتى إلى الغرق؛ هربًا من شيء ما، وهؤلاء ما أن يضعوا قدمًا في الماء حتى يسببون صداعًا يهشم رأس كل حوت لديه القدرة على الاحتفاظ بالبشر بداخل جوفه، وُهِبنا تلك القدرة مع قدرة استشعار بل وشم رائحة هذا النوع من البشر، وحتى العواصف تستشعر ذلك فتلاحقهم
ومن دون أن يمعن دكرور في التفكير في كلام أطلس؛ شعر فجأة أن هناك شيئًا على غير ما يرام، وعلم أن ذلك الحلم صار كابوسًا بطريقةٍ ما، ثم سمع شهيقًا كالأنين الخافت، فكان الرجل الذي قتله يقف مكان سقوطه الغائر في سطح السفينة، ويحني ظهره إلى الأمام ويتحرك ببطء وهو يجر ساقه ورائه ويمسك بمُدْية.
تسمّر دكرور في مكانه وشعر بالرعب في أعماق قلبه وفي كل شيء من حوله، كأن لم يكن في العالم سوى ذلك الرجل الذي يقترب منه عازمًا على انتزاع أحشاءه، أراد أن يهرب، أو يجري، أو يمشي، أو حتى يقفز في الماء، لكن قدماه أبت إلا الوقوف والثبات بشجاعة مبتذلة، أراد أن يتكلم، أن ينطق الشهادة، أن يطلب النجدة، لكن كان الأمر كأن رئتيه قد فرغتا تمامًا من الهواء.
وأخيرًا وبعد مجهود لا يوصف تذكر شيئًا واحدًا فقال:
- أطلس!
قالها كأنه عاد أبكمًا مرة أخرى ويجاهد لإخراج الكلمة، ثم جاءه الرد من صوتٍ بعيد يكاد لا يُسمع:
- ليس ذلك من صنعي يا دكرور، إنه حلمك أنتَ، فقط تماسك
وظل دكرور واقفًا والرجل يقترب ببطء، وصوت شهيقه يعلو ولا ينقطع، وهو يلوّح بمُديَته في الهواء أمامه بحركات خرقاء، وكاد بعضها أن يصيب دكرور، حتى قال أطلس:
- حسنًا يا دكرور! ربما لدي حل لمحنتك تلك، لكن لا أعتقد أنه سيعجبك
ثم بعد أن استعاد دكرور جزءًا من سيطرته على نفسه ربما أراد أن يشكر أطلس، لكنه لم يستَعِد صوته بعد، فاكتفى بأن فكر "أي شيء يا أطلس!"، فردّ أطلس:
- اقفز في الماء الآن!
انحل التيبس في جسده فامتثل دكرور للأمر على الفور بأن هرع إلى سور السفينة، فأسرعت حركة الرجل فجأة وهرع يركض وراءه، وقبل أن يقترب كثيرًا من أن يطعنه بمديته كان دكرور على حافة السفينة وألقى بنفسه منها، لكنه لم يسقط في الماء، بل سقط في حفرة لها أسنان.
★★★

لم يستيقظ، ولم يظل نائمًا، ولم يكن يحلم، ولم يكن يتخيل، لقد اختبر كل ذلك من قبل ويعلمه جيدًا، فكر أنه ربما يكون قد مات، لكن حتى الموت قد اختبره من قبل ولم يكن كذلك، إنه الآن يشعر بالحياة كما لم يفعل من قبل.
شعر بالحياة في كل ما يسبح في أعماق البحر أسفله، كما شعر بها في كل ما يطفو على السطح من فوقه، شعر بالكائنات الضخمة ذات العقل الصغير في ظُلمات أعماق البحر، كما شعر بالكائنات الصغيرة ذات العقل الكبير التي تمتطي اليابسة من فوقه، وتصيبه بألم في رأسه، شعر بالأمان لفكرة المكوث في غيابة الأعماق إلى الأبد، كما شعر بعدم الأمان من مجرد فكرة الصعود للسطح ليتنفس.
‏سمع كل شيء تحت الماء حتى الماء نفسه، ولم ير سوى أمه، شعر بأمه أكثر من أي شيء، ولم يخطر على باله أنها قد ماتت، إنها فقط موجودة، وهو ممتن لذلك أشد الامتنان، إذ كان يرضع منها بنهم كأنه يمتص الروح منها، وأيضًا لم يخطر على باله أن عمره ستٌ وعشرون سنة.
وظل على حاله لا يعبأ بشيء، يستمتع بدفء المياه في الظهيرة، ويستمع لغناء أمه الذي يعشقه، ويستمتع بمذاق لبنها في فمه، ويستمتع بالشبع المثير للغثيان في معدته، حتى قطع كل ذلك صوت ضرب على سطح الماء، وظن أنها الدلافين، هو يحب الدلافين ويحب اللعب معها، فأسرع إليها ليجدها تلك الكائنات التي تمتطي اليابسة، فنهته أمه وظلت ثابتة في مكانها، لأنها تعلم أنها عاجلًا أو آجلًا ستصعد للتنفس، إذ لم تكن تحسب حساب المكوث طويلًا تحت الماء، وكانت لا تخفي عنه خوفها الشديد، والذي قد تعوده منها، فهو لم يعهدها إلا خائفة.
اقتربت الكائنات كثيرًا، وصعدت أمه مرة أخرى مضطرةً للتنفس فتبعها، لكن ليس لكي يتنفس هو الآخر، إنه يريد أن يرى تلك الكائنات عن قرب، يريد أن يلمسها، ويعرف حقيقتها، تلك الكائنات الصغيرة التي تثير الذعر في كل ما يعيش تحت الماء.
استغل انشغال أمه بمراقبة أحد المراكب وانسلّ هو من وراءها ليقترب من المركب الآخر الأبعد، فشخَص ببصره من فوق الماء، فكان أحدهم يبرز عن المركب، كان أصغر مما اعتقد وبدا شكله جميلًا وليس مخيفًا أبدًا، لكن لا زال فيه تلك الهيبة التي لدى الوحوش.
سمع صوت أمه تناديه فالتفت إليها بسرعة وأراد أن يعود، لكن استوقفه وخزًا مؤلمًا في ذيله، ولما سبح شعر كأنه يجر عبئًا ثقيلًا وراءه، فوجد شيئًا طويلًا يخترق ذيله ويتصل بالمركب، وذعر حين رأى دمًا حوله.
لا يعلم ماذا يفعل الآن فذيله يؤلمه بشدة، لدرجة أنه لا يقدر على السباحة أو حتى الحركة، ودون أن يراها وهي آتية وجد أمه تقفز إلى خارج الماء نحو المركب، لكنها أخطأته وقفزت على الشيء الذي يخترق ذيله، فانتُزِعَ من ذيله انتزاعًا، مما تسبب له في ألم لا يوصف.
بقيَ في مكانه من شدة الألم، وشاهد أمه وهي ترفع ذيلها خارج الماء وتهوي به على المركب لتهشمه إلى مائة قطعة، قبل أن يأتي مركبين آخرين يرمونها بنفس الشيء الذي كان عالقًا في ذيله، فأخذت تتلوى فقلبت أحد القاربين، قبل أن تغوص في الماء تجر وراءها خطًا أحمر يخرج من ظهرها من مكان اختراق الشيء الرفيع الطويل.
فأخذ يسبقها وهي تغوص إلى المياه الهادئة، وشعر بقليل من الارتياح حين ظن لوهلة أن الأمر قد انتهى وأنهم في أمان، فالتفت وراءه ليجدها قد أبطأت من سرعتها حتى توقفت تمامًا.
‏رآها متعبة وتريد أن تنام، رآها تختنق وتريد أن تتنفس، لا يريدها أن تنام أو تصعد لتتنفس، فقط يريدها أن تبقى معه تحت الماء إلى الأبد، فقط يريدها ألا تتوقف عن الغناء، لكنها كانت تغني الأغنية التي لم يرِد أن يسمعها في حياته، أغنية الوداع.
وضعت مقدمة رأسها على مقدمة رأسه، وتعجب من أنها لم تعد خائفة، فقط كانت متعبة، علِم منها أنه مميز وأنه قوي وأن كل شيء على ما يرام، وأخبرته ألا يتبعها، ثم تركته وأخذت تسبح بوهن و ببطء نحو السطح، وحينها بدأ هو يغني أغنية أخرى، أغنية البكاء.
ولما لم يكن هناك دموع، أو نحيب، أو ألم في الحلق؛ كان بكاؤه في قلبه فقط، مما جعل دكرور ينفجر ويطير عن هذا العالم، ويعود إلى عالم الأحلام الذي يألفه، وهو لا يزال يبكي في قلبه، وبما أن قلوب البشر لا تحتمل هذا النوع من البكاء فقد أطلق العنان لعيونه لتنهمر دموعه، وأطلق العنان لصوته لتعلو صرخاته، وأول ما عاد سمع أطلس يقول:
- كم كان ذلك مثيرًا للاهتمام! لم أكن أعلم أن ذلك سينجح.. شيء غريب حقًا!
ومن دون أن يهدأ ردّ دكرور بصوت عالٍ وهو ينتحب:
- لماذا... ما الذي فعلتَ؟.. ليتكَ تركته يقتلني...
- تلك الذكرى كانت لي
وربما كانت تلك محاولة من أطلس لتهدئته، لكنه زاد الطين بلة حين قال:
- أتعلم يا دكرور.. ليتهم كانوا يصطادون الحيتان لأكل لحمها كما كانوا يفعلون في الأزمنة السابقة، لكان ذلك أكرم لنا ولهم، لكن قل لي.. ما ذنب سمكة أنها تشاركهم التنفس من الهواء وليس الماء كباقي السمك، ما ذنب سمكة أن تحت جلدها شحمًا ينير حياتهم المظلمة، أو لها زيتًا يجعل رائحتهم النتنة أفضل
سكت أطلس برهة وعاد يكمل:
- الأوغاد الأغبياء! لقد اتخذونا آلهةً، ثم قتلوا آلهتهم تعبّدًا، بعدها أصبحنا شياطين لدفاعنا عن أنفسنا وأطفالنا...
- أنا لم أكن بحاجة لأرى كم هم شياطين ووحوش
- معذرةً يا عزيزي دكرور.. كنت أعتقد أنك نسيت من هم الشياطين، حين سمعتك تسأل الرجال عن سبب فعلهم ما يفعلون..
- ولِمَ لا تفعله أنت؟
- إن وظيفتنا هي عقاب البشر بحبسهم داخل أجوافنا وليس بقتلهم.. أنا لا أقتل أبدًا، وإن كانت حياتي تتوقف على ذلك، الرجال عرضوا عليّ الاهتمام بذلك الأمر، وأنا لا يمكنني التعبير عن مدى امتناني لهم ولما يفعلون، وإن كنت لا تريد المساعدة فلك أن تبقى داخل الجوف ولن تخرج، أو تبحث عن توبتكَ وتظفر بحريتكَ
حينها ردّ دكرور وقد هدأ بكاؤه، واستعر مكانه غضبًا عارمًا:
- لا.. بل سأغرق كل سفينة بيدي، سأجعلهم يدفعون ثمن كل قطرة زيت، وكل قطعة لحم انتزعوها من الحيتان، سأجعلهم يدفعون ثمن دمويتهم وتوحشهم وغطرستهم...
استيقظ دكرور في عالم الواقع قبل أن يكمل كلامه، وشعر بالخجل والعجب من نفسه ومما قال، وتوقع أن يزول أثر ذلك الحلم فور أن يعود إلى النوم مرة أخرى، لكنه لم يفعل.
★★★

انتهيت من قراءة الفصل الخامس وقد بدأت أشعر بالملل من الرواية بأكملها، وأفقد الشغف لإكمالها، لا أنكر أن عودة أوين كانت شيئًا مثيرًا، لكن كنت أتوقع أن يفعل أكثر من ذلك أو يحدث شيئًا جديدًا، إلا إنه بدا أنه عاد من نزهة، كما أن عنوان الفصل التالي ليس مشجعًا أبدًا، فتوقفت عن القراءة ليومين من دون نيّة لإكمالها.
وفي اليوم التالي كان دكرور جالسًا في صمت كعادته، فباغتّه بطلب لا أعلم رد فعله عندما يسمعه، فقلت بتردّد:
- دكرور!
غمغم بأنه يسمعني دون أن يلتفت إليّ، فقلت بعد مدة:
- أيمكنني أن أرى أطلس؟
وفكرت "أو حتى هيكله العظمي"، فقال دكرور بعد أن رفع رأسه دون أن ينظر إليّ:
- سأجعلك تراه عندما تنتهي من الرواية، وربما قبل ذلك
ولم أرِد أن ألح في الأمر أكثر، لكن قلت:
- كنتُ أريد أن أعرف أطلس أكثر
- لماذا؟
- لا أعلم، أنتَ فقط لم تذكره بشكل كافٍ في الرواية، مقارنةً بقصتكَ.. أعني قصة دكرور
- أصلًا تلك الرواية ما هي إلا أجزاء من ألفي صفحة من مذكرات دكرور، وإذ إنها رواية فقد رتبتها وحذفت منها ما ليس له دور في الحبكة والبناء الدرامي وبناء الشخصيات وما إلى ذلك، ثم أضفت قصة أطلس وفصلين آخرَين؛ فقط لكي تكتمل الحبكة
- مهلًا! هل كان دكرور يكتب مذكراته وهو في الجوف؟
- لا، لقد كتبها... لقد كتبتها بعد أن خرجت
وأضاف:
- ثم إن فعلًا حياة الحيوانات أكثر مللًا من البشر، ولطالما كان البشر أكثر تعقيدًا وأكثر إثارة للاهتمام، أتعلم ما الذي وجدته يميز البشر فعلًا عن الحيوانات؟ ليس العقل، فمعظم الكائنات لها عقل ومعظمهم يُعملون عقولهم بطريقة أو بأخرى، كما أن الحيوانات أيضًا تشعر، فهي تفرح وتحزن وتغضب وتحب وتكره، لكنهم لا يعرفون أيًّا من ذلك، فالبشر وحدهم من أجادوا إعمال عقولهم وقلوبهم ببراعة، وحدهم البشر من لديهم تلك القدرة الفذة على فهم أفكارهم ومشاعرهم وتسميتها وتعريفها ووصفها ووضعها في الكلمات، وذلك ما مكنهم من استحضارها بل وتمريرها إلى من حولهم إن أرادوا، وذلك ما يجعلهم أعقد كثيرًا من الحيوانات من جميع النواحي...
قطع دكرور كلامه عندما جاء سام وقال:
- سأذهب إلى المدينة يا إدي.. هل تريد شيئًا؟
- لا، شكرًا يا سام!
وما كاد سام أن يخرج حتى عاد برأسه فقط وقال لي من وراء الجدار:
- إدي!
- نعم!
- أنت تعلم من أنا.. صحيح؟
- ماذا تقصد؟
- أعني أنت تعلم أني... سامبار؟
- ماذا!!!!!
قلتها بانفعال ودهشة وأخذت أضحك بهستيرية مما أضحك دكرور وسام، فقال له سام:
- كنت أظن أنك أخبرته!
قال دكرور وهو لا يزال يضحك:
- كنت أظن أنك من أخبرته، أو أنه علم وحده
ثم قلتُ بعد أن هدأت، وبعد أن تذكرت أنه من المفترض ألا أصدقهم:
- أنتم تمزحون! أعتقد أنكم تماديتم كثيرًا في ذلك الجنون يا الرفاق
رَد سام:
- صدّق أو لا تصدّق أيها الأحمق! أنا ذاهب...
قالها سام وخرج، فعدت إلى دكرور وأشرت إلى شيء ما وقلت بدهشة:
- سامبار!!! كيف كنت سأعلم وحدي؟
- لا أعلم.. ربما لم أصِفه في الرواية بشكل كافٍ هو الآخر
استعدت في عقلي شكل سامبار الذي تخيلته من الرواية، فلم أستطع التفكير سوى في سام الذي أعرفه، وقد زاد إعجابي بالقصة، بل وحتى بدأت أصدقها، فحتى إن لم تكن حقيقية فهي تكاد أن تكون كذلك، ثم قلت:
- مؤكد أنه ليس أنتَ وسامبار فقط من تعيشون هنا من سكان أطلس، أخبرني من أيضًا
- لا!
- أرجوكَ!
- لا، ثم إني لاحظت أنك لم تعد تقرأ
تركته متذمرًا وأخذت الكتاب وصعدت به لأكمل القراءة...
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.